الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
أي وبالسلاسل كما قرئ به أو في السلاسل كما في مصحف أبي، والفراء على العطف بحسب المعنى إذ الأغلال في أعناقهم بمعنى أعناقهم في الأغلال، ونظيره قوله: ويسمى في غير القرآن عطف التوهم، وذهب إلى هذا التخريج الزمخشري وابن عطية، وابن الأنباري بعد أن ضعف تخريج الزجاج خرج القراءة على ما قال الفراء قال: وهذا كما تقول: خاصم عبد الله زيدًا العاقلين بنصب العاقلين ورفعه لأن أحدهما إذا خاصم صاحبه فقد خاصم الآخر، وهذه المسألة لا تجوز عند البصريين ونقل جوازها عن محمد بن سعدان الكوفي قال: لأن كل واحد منهما فاعل مفعول {ثُمَّ في النار يُسْجَرُونَ} يحرقون ظاهرًا وباطنًا من سجر التنور إذا ملأه إيقادًا ويكون بمعنى ملأه بالحطب ليحميه، ومنه السجير للصديق الخليل كأنه سجر بالحب أي ملىء، ويفهم من القاموس أن السجر من الأضداد، وكلا الاشتقاقين مناسب في السجير أي ملىء من حبك أو فرغ من غيرك إليك والأول أظهر.والمراد بهذا وما قبله أنهم معذبون بأنواع العذاب سحبهم على وجوههم في النار الموقدة ثم تسليط النار على باطنهم وأنهم يعذبون ظاهرًا وباطنًا فلا استدراك في ذكر هذا بعد ما تقدم.{ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ الله قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا} أي يقال لهم ويقولون، وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع، والسؤال للتوبيخ، وضلالهم عنهم بمعنى غيبتهم من ضلت دابته إذا لم يعرف مكانها، وهذا لا ينافي ما يشعر بأن آلهتهم مقرونون بهم في النار لأن للنار طبقات ولهم فيها مواقف فيجوز غيبتهم عنهم في بعضها واقترانهم بهم في بعض آخر، ويجوز أن يكون ضلالهم استعارة لعدم النفع فحضورهم كالعدم فذكر على حقيقته في موضع وعلى مجازه في آخر {بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئًا} أي بل تبين لنا اليوم إنا لم نكن نعبد في الدنيا شيئًا يعتد به، وهو إضراب عن كون الآلهة الباطلة ليست بموجودة عندهم أو ليست بنافعة إلى أنها ليست شيئًا يعتد به.وفي ذلك اعتراف بخطئهم وندم على قبيح فعلهم حيث لا ينفع ذلك، وجعل الجلبي هذه الآية كقوله تعالى: {والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] يفزعون إلى الكذب لحيرتهم واضطرابهم، ومعنى قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ الله الكافرين} أنه تعالى يحيرهم في أمرهم حتى يفزعون إلى الكذب مع علمهم بأنه لا ينفعهم، ولعل ما تقدم هو المناسب للسياق.ومعنى هذا مثل ذلك الإضلال يضل الله تعالى في الدنيا الكافرين حتى أنهم يدعون فيها ما يتبين لهم أنه ليس بشيء أو مثل ضلال آلهتهم عنهم في الآخرة نضلهم عن آلهتهم فيها حتى لو طلبوا الآلهة وطلبتهم لم يلق بعضهم بعضًا أو مثل ذلك الضلال وعدم النفع يضل الله تعالى الكافرين حتى لا يهتدوا في الدنيا إلى ما ينفعهم في الآخرة، وفي المجمع كما أضل الله تعالى أعمال هؤلاء وأبطل ما كانوا يؤملونه كذلك يفعل بأعمال جميع من يتدين بالكفر فلا ينتفعون بشيء منها، فإضلال الكافرين على معنى إضلال أعمالهم أي إبطالها، ونقل ذلك عن الحسن، وقيل في معناه غير ذلك.{ذلكم} إشارة إلى المذكور من سحبهم في السلاسل والأغلال وتسجيرهم في النار وتوبيخهمب السؤال، وجوز على بعض الأوجه أن يكون إشارة إلى إضلال الله تعالى الكافرين، وإلى الأول ذهب ابن عطية أي ذلكم العذاب الذي أنتم فيه {بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ في الأرض} تبطرون وتأشرون كما قال مجاهد: {بِغَيْرِ الحق} وهو الشرك والمعاصي أو بغير استحقاق لذلك، وفي ذكر {الأرض} زيادة تفظيع للبطر {وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ} تتوسعون في الفرح، وقيل: المعنى بما كنتم تفرحون بما يصيب أنبياء الله تعالى وأولياءه من المكاره وبما كنتم تتوسعون في الفرح بما أوتيتم حتى نسيتم لذلك الآخرة واشتغلتم بالنعمة عن المنعم، وفي الحديث «الله تعالى يبغض البذخين الفرحين ويحب كل قلب حزين» وبين الفرح والمرح تجنيس حسن، والعدول إلى الخطاب للمبالغة في التوبيخ لأن ذم المرء في وجهه تشهير له، ولذا قيل: النصح بين الملأ تقريع.{ادخلوا أبواب جَهَنَّمَ} أي الأبواب المقسومة لكم {خالدين فِيهَا} مقدرين الخلود {فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين} عن الحق جهنم، وكان مقتضى النظم الجليل حيث صدر بادخلوا أن يقال: فبئس مدخل المتكبرين ليتجاوب الصدر والعجز لكن لما كان الدخول المقيد بالخلود سبب الثواء عبر بالمثوى وصح التجاوب معنى، وهذا الأمر على ما استظهره في البحر مقول لهم بعد المحاورة السابقة وهم في النار، ومطمح النظر فيه الخلود فهو أمر بقيد الخلود لا بمطلق الدخول، ويجوز أن يقال: هم بعد الدخول فيها أمروا أن يدخلوا الأبواب المقسومة لهم فكان أمرًا بالدخول بقيد التجزئة لكل باب، وقال ابن عطية: يقال لهم قبل هذه المحاورة في أول الأمر ادخلوا.{فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله} بتعذيب أعدائك الكفرة {حَقّ} كائن لا محالة {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} أصله فإن نرك فزيدت {مَا} لتوكيد {إن} الشرطية ولذلك جاز أن يلحق الفعل نون التوكيد على ما قيل: وإلى التلازم بين ما ونون التوكيد بعد أن الشرطية ذهب المبرد والزجاج فلا يجوز عندهما زيادة ما بدون إلحاق نون ولا إلحاق نون بدون زيادة ما ورد بقوله: ونسب أبو حيان على كلام فيه جواز الأمرين إلى سيبويه والغالب أن إن إذا أكدت بما يلحق الفعل بعدها نون التوكيد على ما نص عليه غير واحد {بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ} وهو القتل والأسر {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قبل ذلك {فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} يوم القيامة فنجازيهم بأعمالهم، وهو جواب {نَتَوَفَّيَنَّكَ} وجواب {نُرِيَنَّكَ} محذوف مثل فذاك، وجوز أن يكون جوابًا لهما على معنى أن نعذبهم في حياتك أو لم نعذبهم فإنا نعذبهم في الآخرة أشد العذاب ويدل على شدته الاقتصار على ذكر الرجوع في هذا المعرض.والزمخشري آثر في الآية هنا ما ذكر أولًا وذكر في الرعد في نظيرها أعني قوله تعالى: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} [الرعد: 40] ما يدل على أن الجملة المقرونة بالفاء جواب على التقديرين، قال في الكشف: والفرق أن قوله تعالى: {فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} عدة للإنجاز والنصر وهو الذي همه عليه الصلاة والسلام وهم المؤمنين معقود به لمقتضى هذا السياق فينبغي أن يقدر فذاك هناك ثم جىء بالتقدير الثاني ردًا لشماتتهم وإنه منصور على كل حال وإتمامًا للتسلي، وأما مساق التي في الرعد فلا يجاب التبليغ وإنه ليس عليه غير ذلك كيفما دارت القضية، فمن ذهب إلى إلحاق ما هنا بما في الرعد ذهب عنه مغزى الزمخشري انتهى فتأمل ولا تغفل.وقرأ أبو عبد الرحمن. ويعقوب {يَرْجِعُونَ} بفتح الياء، وطلحة بن مصرف. ويعقوب في رواية الوليد بن حسان بفتح تاء الخطاب. اهـ.
|